فصل: قال سيد قطب:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والأصل في هذا قوله تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الممتحنة: 8- 9]، قال السيد ابن المرتضى اليمانيّ في (إيثار الحق): عن الإمام المهديّ محمد بن مطهر عليه السلام، أن الموالاة المحرمة بالإجماع، هي أن تحب الكافر لكفره، والعاصي لمعصيته، لا لسبب آخر، من جلب نفع أو دفع ضرر، أو خصلة خير فيه. وسيأتي في أول سورة الممتحنة زيادة على هذا إن شاء الله تعالى، وبالله التوفيق. اهـ.

.قال سيد قطب:

{قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قول الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1)}
كان الرجل في الجاهلية يغضب لأمر من امرأته فيقول: أنت علي كظهر أمي. فتحرم عليه، ولا تطلق منه. وتبقى هكذا، لا هي حل له فتقوم بينهما الصلات الزوجية؛ ولا هي مطلقة منه فتجد لها طريقا آخر. وكان هذا طرفا من العنت الذي تلاقيه المرأة في الجاهلية.
فلما كان الإسلام وقعت هذه الحادثة التي تشير إليها هذه الآيات، ولم يكن قد شرع حكم للظهار. قال الإمام أحمد: حدثنا سعد بن إبراهيم ويعقوب، قالا: حدثنا أبي، حدثنا محمد بن إسحاق، حدثني معمر ابن عبد الله بن حنظلة، عن يوسف بن عبد الله بن سلام، عن خويلة بنت ثعلبة. قالت: في والله وفي أوس بن الصامت أنزل الله صدر سورة المجادلة. قالت: كنت عنده، وكان شيخا كبيرا قد ساء خلقه، قالت: فدخل علي يوما فراجعته بشيء فغضب، فقال: أنت علي كظهر أمي. قالت: ثم خرج فجلس في نادي قومه ساعة، ثم دخل علي، فإذا هو يريدني عن نفسي، قالت: قلت: كلا والذي نفس خويلة بيده، لا تخلص إلي وقد قلت ما قلت حتى يحكم الله ورسوله فينا بحكمه. قالت: فواثبني، فامتنعت منه فغلبته بما تغلب به المرأة الشيخ الضعيف، فألقيته عني. قالت: ثم خرجت إلى بعض جاراتي فاستعرت منها ثيابا، ثم خرجت حتى جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلست بين يديه، فذكرت له ما لقيت منه، وجعلت أشكو إليه ما ألقى من سوء خلقه. قالت: فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يا خويلة ابن عمك شيخ كبير فاتقي الله فيه. قالت: فوالله ما برحت حتى نزل في قرأن؛ فتغشى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان يتغشاه، ثم سري عنه، فقال لي: يا خويلة قد أنزل الله فيك وفي صاحبك قرآنًا».. ثم قرأ علي-: {قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير}.. إلى قوله تعالى: {وللكافرين عذاب أليم}.. قالت: فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مريه فليعتق رقبة». قالت: فقلت: يا رسول الله ما عنده ما يعتق. قال: «فليصم شهرين متتابعين». قالت: فقلت: والله إنه لشيخ ما له من صيام. قال: «فليطعم ستين مسكينا وسقا من تمر». قالت: فقلت: والله يا رسول الله ما ذاك عنده. قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فإنا سنعينه بعرق من تمر». قالت: فقلت يا رسول الله وأنا سأعينه بعرق آخر. قال: «قد أصبت وأحسنت فاذهبي فتصدقي به عنه، ثم استوصي بابن عمك خيرا». قالت: ففعلت.
فهذا هو الشأن الذي سمع الله ما دار فيه من حوار بين رسول الله صلى الله عليه وسلم والمرأة التي جاءت تجادله فيه. وهذا هو الشأن الذي أنزل الله فيه حكمه من فوق سبع سماوات، ليعطي هذه المرأة حقها، ويريح بالها وبال زوجها، ويرسم للمسلمين الطريق في مثل هذه المشكلة العائلية اليومية!
وهذا هو الشأن الذي تفتتح به سورة من سور القرآن: كتاب الله الخالد، الذي تتجاوب جنبات الوجود بكل كلمة من كلماته، وهي تتنزل من الملأ الأعلى.. تفتتح بمثل هذا الإعلان: {قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها...}فإذا الله حاضر هذا الشأن الفردي لامرأة من عامة المسلمين، لا يشغله عن سماعه تدبيره لملكوت السماوات والأرض؛ ولا يشغله عن الحكم فيه شأن من شؤون السماوات والأرض!
وإنه لأمر.. إنه لأمر أن يقع مثل هذا الحادث العجيب؛ وأن تشعر جماعة من الناس أن الله هكذا معها، حاضر شؤونها، جليلها وصغيرها، معني بمشكلاتها اليومية، مستجيب لأزماتها العادية.. وهو الله.. الكبيرالمتعال، العظيم الجليل، القهار المتكبر، الذي له ملك السماوات والأرض وهو الغني الحميد.
تقول عائشة- رضي الله عنها-: الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات. لقد جاءت المجادلة خولة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في جانب البيت، ما أسمع ما تقول. فأنزل الله عز وجل: {قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله}... الآية.
وفي رواية خولة- أو خويلة للتصغير والتدليل- للحادث، وتصرفها هي فيه، وذهابها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومجادلتها له، ونزول القرآن بالحكم.. في هذا كله صورة من حياة تلك الجماعة الفريدة في تلك الفترة العجيبة. وشعورها بتلك الصلة المباشرة، وانتظارها التوجيه من السماء في كل شأن من شؤونها واستجابة السماء لهذا الانتظار، الذي يجعل الجماعة كلها- عيال الله- هو يرعاها وهي تتطلع إليه تطلع الطفل الصغير لأبيه وراعيه!
وننظر في رواية الحادث في النص القرآني، فنجد عناصر التأثير والإيحاء والتربية والتوجيه تسير جنبا إلى جنب مع الحكم وتتخلله وتعقب عليه، كما هو أسلوب القرآن الفريد:
{قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير}.. وهو مطلع ذو إيقاع عجيب.. إنكما لم تكونا وحدكما.. لقد كان الله معكما. وكان يسمع لكما. لقد سمع قول المرأة. سمعها تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله. وعلم القصة كلها. وهو يعلم تحاوركما وما كان فيه.. إن الله سميع بصير. يسمع ويرى. هذا شأنه وهذه صورة منه في الحادث الذي كان الله ثالثكما فيه.. وكلها إيقاعات ولمسات تهز القلوب..
ثم يقرر أصل القضية، وحقيقة الوضع فيها:
{الذين يظاهرون منكم من نسائهم ما هن أمهاتهم إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا وإن الله لعفو غفور}..
فهو علاج للقضية من أساسها. إن هذا الظهار قائم على غير أصل. فالزوجة ليست أما حتى تكون محرمة كالأم. فالأم هي التي ولدت. ولا يمكن أن تستحيل الزوجة أما بكلمة تقال. إنها كلمة منكرة ينكرها الواقع. وكلمة مزورة ينكرها الحق. والأمور في الحياة يجب أن تقوم على الحق والواقع، في وضوح وتحديد، فلا تختلط ذلك الاختلاط، ولا تضطرب هذا الاضطراب.. {وإن الله لعفو غفور}فيما سلف من هذه الأمور.
وبعد تقرير أصل القضية على هذا النحو المحدد الواضح يجيء الحكم القضائي في الموضوع. {والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا ذلكم توعظون به والله بما تعملون خبير}..
وقد جعل الله العتق في كفارات متنوعة، وسيلة من وسائل التحرير للرقاب التي أوقعها نظام الحروب في الرق إلى أجل، ينتهي بوسائل شتى هذه واحدة منها. وهناك أقوال كثيرة في معنى: {ثم يعودون لما قالوا}.. نختار منها أنهم يعودون إلى الوطء الذي حرموه على أنفسهم بالظهار. فهذا أقرب ما يناسب السياق. فتحرير رقبة من قبل العودة إلى حله.. ثم التعقيب: {ذلكم توعظون به}.. فالكفارة مذكر وواعظ بعدم العودة إلى الظهار الذي لا يقوم على حق ولا معروف {والله بما تعملون خبير}.. خبير بحقيقته، وخبير بوقوعه، وخبير بنيتكم فيه.
{فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (4) إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ (5)}
وهذا التعقيب يجيء قبل إتمام الحكم لإيقاظ القلوب، وتربية النفوس، وتنبيهها إلى قيام الله على الأمر بخبرته وعلمه بظاهره وخافيه. ثم يتابع بيان الحكم فيه:
{فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا}...
ثم التعقيب للبيان والتوجيه:
{ذلك لتؤمنوا بالله ورسوله}... وهم مؤمنون.. ولكن هذا البيان، وهذه الكفارات وما فيها من ربط أحوالهم بأمر الله وقضائه.. ذلك مما يحقق الإيمان، ويربط به الحياة؛ ويجعل له سلطانا بارزا في واقع الحياة. {وتلك حدود الله}.. أقامها ليقف الناس عندها لا يتعدونها. وهو يغضب على من لا يرعاها ولا يتحرج دونها: {وللكافرين عذاب أليم}.. بتعديهم وتحديهم وعدم إيمانهم وعدم وقوفهم عند حدود الله كالمؤمنين..
الدرس الثاني: 5- 6 هلاك وكبت وخسارة الذين يحادون الله ورسوله:
وتلك العبارة الأخيرة: {وللكافرين عذاب أليم}.. تناسب ختام الآية السابقة، وهي في الوقت ذاته قنطرة تربط بينها وبين الآية اللاحقة التي تتحدث عمن يحادون الله ورسوله. على طريقة القرآن في الانتقال من حديث لحديث في تسلسل عجيب:
{إن الذين يحادون الله ورسوله كبتوا كما كبت الذين من قبلهم وقد أنزلنا آيات بينات وللكافرين عذاب مهين يوم يبعثهم الله جميعا فينبئهم بما عملوا أحصاه الله ونسوه والله على كل شيء شهيد}..
إن المقطع الأول في السورة كان صورة من صور الرعاية والعناية بالجماعة المسلمة. وهذا المقطع الثاني صورة من صور الحرب والنكاية للفريق الآخر. فريق الذين يحادون الله ورسوله، أي الذين يأخذون لهم موقفا عند الحد الآخر في مواجهة الله ورسوله! وذكر المحادة بمناسبة ذكره قبلها لحدود الله. فهؤلاء لا يقفون عند حد الله ورسوله، بل عند الحد الآخر المواجه! وهو تمثيل للمتخاصمين المتنازعين، لتفظيع عملهم وتقبيح موقفهم. وساء موقف مخلوق يتحدى فيه خالقه ورازقه، ويقف في تبجح عند الحد المواجه لحده!
هؤلاء المحادون المشاقون المتبجحون: {كبتوا كما كبت الذين من قبلهم}.. والأرجح أن هذا دعاء عليهم. والدعاء من الله-سبحانه- حكم. فهو المريد وهو الفعال لما يريد. والكبت القهر والذل. والذين من قبلهم إما أن يكونوا هم الغابرين من الأقوام الذين أخذهم الله بنكاله وإما أن يكونوا الذين قهرهم المسلمون في بعض المواقع التي تقدمت نزول هذه الآية، كما حدث في غزوة بدر مثلا.
{وقد أنزلنا آيات بينات}..
تفصل هذه العبارة بين مصير الذين يحادون الله ورسوله في الدنيا ومصيرهم في الآخرة.. لتقرير أن هذا المصير وذاك تكفلت ببيانه هذه الآيات. وكذلك لتقرير أنهم يلاقون هذه المصائر لا عن جهل ولا عن غموض في الحقيقة، فقد وضحت لهم وعلموها بهذه الآيات البينات.
ثم يعرض مصيرهم في الآخرة مع التعقيب الموحي الموقظ المربي للنفوس:
{وللكافرين عذاب مهين يوم يبعثهم الله جميعا فينبئهم بما عملوا أحصاه الله ونسوه والله على كل شيء شهيد}..
{يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (6) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7)}
والمهانة جزاء التبجح. وهي مهانة يوم يبعثهم الله جميعا. مهانة على رؤوس الجموع. وهو عذاب يقوم على حق وبيان لما عملوا. إن كانوا هم قد نسوه فإن الله أحصاه بعلمه الذي لا يند عنه شيء، ولا يغيب عنه خاف: {والله على كل شيء شهيد}..
وتلتقي صورة الرعاية والعناية، بصورة الحرب والنكاية، في علم الله واطلاعه، وشهوده وحضوره. فهو شاهد حاضر للعون والرعاية؛ وهو شاهد حاضر للحرب والنكاية. فليطمئن بحضوره وشهوده المؤمنون. وليحذر من حضوره وشهوده الكافرون!